على سفح جبل أجرد، كانت تقف سنديانة عجوز، تشمخ بإباء، وقربها ثلاث شجرات صغيرة من بناتها. كان الفصل شتاء، وكانت الريح العاتية تعصف بهن بقوة رهيبة، كأنها تريد اقتلاعهن، وكانت أغصانهُن تئز أزيزاً حزيناً، كأنهنّ أطفال ينحبون من البرد، بعد مرور العاصفة، وقفت السنديانة العجوز، شامخة غير مبالية ببعض أغصانها التي تكسرت، ثم نادت الشجرات الثلاث وقالت : هل رأيت يا بناتي ما فعلته الريح بنا ؟ ردت الشجرة الأولى :  آو يا أمي ما رأينا، لقد تسلل البرد إلى عروقي لدرجة أشعرتني بأنها ستقتُلني .

أكملت الشجرة الثانية : إن شدة عصفها بأغصاني، جلتني أبكي خوفاً وألماً، ظننت أنها ستقتلني وتلقي بي بعيدا، ردت الشجرة الأولى : ومم تخافين إذا فعلت، أتأسفين إذا ما ألقت الريح بك بعيدا عن هذا السفح الأجرد، ربما تجدين مكانا أفضل، أيدت الشجرة الثانية : ما تقولينه صحيح يا أختي، الحياة هنا مملة قاتلة، لا طير يغرد ، ولا غزال أو أرنب يرعى ، حتى بتنا نشتهي سماع عواء ذئب قربنا.

تدخلت الشجرة الثالثة : لقد أخطأتُما يا أختي في كل ما قلتما، كيف تذُمان هذا السفح الأجرد وهو موطننا وفيه نبتنا، ثم كيف ترضيان بالعيش في أرض أخرى غريبتين ، والغريب منبوذ ، ثم ألا تعلمان أننا إذا ما قتلعنا وأبعدنا عن أرضنا نموت، وأخيرا فالوحدة القاتلة التي تتحدثان عنها ، هي بسبب رياح الشتاء القارسة، التي تجبر الحيوانات على الهرب إلى الملاجئ، ألا تذکران كيف تتكاثر حولنا في الصيف الطيور والحيوانات .

نرشح لك عزيزي القاري قصص وحكايات أخرى من قسم: قصص اطفال .

قالت الشجرة الثالثة هذا ، ثم التفتت إلى أمها وسألت : ولكن يا أماه ، لماذا تحاول الريح إلحاق الأذى والضرر بنا هكذا ؟ أجابت السنديانة الأم : لأنها مستبدة طاغية ، إنها تظن أنها تستطيع التحكم بالعالم ، ولذلك فهي تعصف بكل ما يقف في طريقها بقسوة وشدة ، إنها تحاول أن تحيل سطح الأرض إلى ملعب مُستو لتمرح وتسرح فيه ، لذلك فعندما ترانا واقفين ، تظن أننا نتحداها و تقصفنا بشدة وقوة ، ولأننا معشر الأشجار لا نعيش إلا واقفين ، فإننا نتحمل قسوة الريح وأذاها .

سألت الشجرة الثالثة : ألا نستطيع مقاومة الريح الطاغية يا أماه ؟ أجابت الأم : كنت أنتظر حتى تكْبرن، ولكني أشعر بأن هذا الشتاء، سيكون شتائي الأخير، لذا اسمعوا وصيتي لكم : إن الريح لا تستبد وتطغى ، إلا في الأماكن الجرداء ، حيث لا يقاومها أحد ، فحولوا هذه الأرض التي أنتم عليها إلى غابة كثيفة، تستطيعون عندها التصدي للريح العاتية .. سألت الشجرة الأولى :  وكيف نفعل ذلك يا أماه ؟ ردت السنديانة الأم : امددن جذوركن عميقة في الأرض ، ولتحمل أغصانكن الكثير من الأزهار، وعندما تصبح الأزهار بذوراً ، انثرنها حولكن ، وعندما تنبت البذور نباتات طرية ، احينها وازعينها في ظلالكن ، وهكذا ، وبعد عدة سنوات سيمتلئ هذا السفح أشجاراً ، وسيتحول بذلك إلى غابة كثيفة منيعة.

سألت الشجرة الثانية : وهل ستترك الريح بذورنا لتنمو وتكبير ؟ أجابت الأم : ستذرو بعض البذور بعيداً ، وستكسر بعض الأغصان بل وستقتلع بعض الشجيرات، ولكن بالصبر والإصرار ستحققن هدفكن، وعندها ستفرحن كثيراً يا بناتي ، وستتمتّعن بالغابة التي كونتنها ، فستمتلى بالطيور والغزلان والأسود وغيرها ، وستطربن لأغانيها، وستسررن لنزهاتها . ما كادت الشجرة الأم تنهي كلامها ، وترفع رأسها ناظرة إلى الأفق البعيد ، حتى التفتت إلى بناتها وقالت : هيا يا بناتي ، تشبثن بالأرض جيدا ، فإني أرى عاصفة قادمة ، فإذا ما اقتلعتني ، فوصيتي لا تنسينها .

وصلت العاصفة بعد قليل ، شديدة رهيبة ، وظلت تعصف ثلاثة أيام بلياليها ، واستطاعت في اليوم الرابع ، أن تقتلع السنديانة العجوز، وتدرجها بعيدا ، وهي تزمجر كمن حقق انتصاراً ، وبعدها بقليل هدأت العاصفة. ما حزنت الشجرات الثلاث لمصير أمهنّ ، وامتلأت نفوسهن لذلك عزما وتصميما على تحقيق وصيتها .. وفي الربيع باشرن التنفيذ ، ولذلك ما مرت عدة سنوات حتى كان السفح الأجرة قد تحول إلى غابة كثيفة جميلة منيعة، وبذلك تحقق حلم الشجرة العجوز الأبنية الحكيمة .